معنى وَسَط غير وسْط ، إذا كان حرف السين ساكناً أي بمكان متوسِّط ، تقول : هذا الرجل وَسْطٌ بين رجلين ، أما وَسَط أي معتدل لا إلى التهوُّر ولا إلى الجُبن ، لا إلى إنفاق المال إسرافاً ولا إلى منعه تقتيـراً ، لا إلى الخمول المميت ولا إلى التهوّر المقيت ، فالوَسَط هو الاعتدال ، والحقيقة دائماً وسَطٌ بين طرفين .فهذا الصحابي الجليل لم يكن متطرِّفاً بل كان متفوِّقاً ، فكأن التطرُّف حركةً أفقيّة ، بينما التفوّق حركةً عمودية ، وأنا أهيب بكم أن تبتعدوا عن التطرُّف وأن تقتربوا من التفوُّق ، كلما زدت من إخلاصك، زدت من استقامتك ، زدت من بذْلك وتضحيتك ، زدت نفسك في طلب العلم تفوَّقت ، وكلما أخذت فرعاً من فروع الدين وبالغت به على حساب فروع الدين الأخرى فقد وقعت بالتطرُّف والغلو ، ونعوذ بالله من التطرُّف ، ولا أكتمكم أن تاريخ المسلمين ولا سيما في عصور التخلُّف كان سلسلة مواقف متطرِّفة تبعها ردود فعل متطرِّفة ، مواقف متطرِّفة تبعتها ردود فعل متطرِّفة ، نحن نبحث عن التفوُّق لا عن التطرّف ، التطرُّف أفقي أما التفوّق عمودي نحو الأعلى .
وقد ذكرت لكم من قبل أن الله سبحانه وتعالى في آيتين اثنتين ينهانا عن الغلو في الدين ، ومن أدقّ تعاريف الغلو في الدين أن المغالي يأخذ كُلِيةً من كُليَّات الدين فيجعلها الدين كلّه ، أو يأخذ فرعاً من فروع الدين فيجعله كُلِيَةً من كُلِيَّات الدين ، أو يعتقد بشخصٍ فيرفعه فوق مقامه بكثير ، هذا غلو ، أما التفوّق أن يزيد إخلاصك ، أن تزيد طاعتك ، أن يزيد بَذْلُك وتضحيتك ، أن يزيد علمك ، أن تزداد دعوتك نحو الأعلى .
الحقيقة سأريكم بمثلٍ مبسَّط الفرق الدقيق بين التطرُّف والتفوّق ، لو أن طفلاً عمره عشر سنين ، نموّه بشكل متوازن تفوّق ، أما أن تنموَ بعض الخلايا نمواً عشوائياً على حساب الخلايا الأخرى فهذا صار مرضاً خطيراً ، فالتطرُّف نمو غير طبيعي ، نمو غير منضبط بجانبٍ على حساب جانب ، لكن التفوُّق نموٌ طبيعيٌ متوازنٍ ، فالمتفوق ينمو عقله وينمو قلبه ويرقى عمله ، فلديه توازن ، أما إذا نما العقل على حساب القلب وقعنا في السفسطة ، وإذا نما القلب على حساب العقل ربما وقعنا في الزندقة ، وإذا نما العقل والقلب وتخلَّف العمل فقد ضيعنا الحياة الدنيا في القيل والقال ، التفوّق نموٌ متوازن طبيعي، أما التطرّف فهو نموٌ في جانب آخر على حساب جانبٍ نمواً عشوائياً غير منضبطٍ ، وإذا كان هناك في العالم الإسلامي صحوة فأخطر شيءٍ نخشاه على هذه الصحوة التطرّف لا التفوّق .
في قصة إسلام هذا الخليفة أحداث مثيرة ، فذات يومٍ لاهبٍ كما يقول كتَّاب السيرة خرج هذا الرجل العملاق من داره وسيفه على عاتقه ميمماً وجهه شطر دار الأرقم حيث كان النبي عليه الصلاة والسلام ونفرٌ من أصحابه المؤمنين يذكرون الله هناك ، وفي الطريق يلقاه نُعيم بن عبد الله فيرى ملامحه تتفجَّر بأساً ونقمةً ، فيقترب من عمر ويقول : " إلى أين يا عمر ؟ فيجيبه : إلى هذا الصابئ الذي فرَّق أمر قريش ، وسفَّه أحلامها ، وعاب دينها ، وسبَّ آلهتها فأقتله " ، لعلكم تعلمون أن في هذا الوقت بالذات حينما انطلق هذا الخليفة العظيم أو هذا الرجل الكبير قبل أن يكون مسلما انطلق ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام ، ما الذي حصل حتى انقلب اندفاعه اندفاعاً آخر ؟ قد يقول أحدكم : أيعقل هذا ، أيكونُ إيمانٌ بين عشيةٍ وضحاها ؟! أيدخل الإيمان إلى قلب الإنسان في طرفة عين ؟! فالسحرة ألم يستعن بهم فرعون ليدحضوا الحق الذي جاء به موسى ، وكيف انقلبوا فجأةً من أُناسٍ يعملون لصالح الكُفر إلى أُناسٍ قد آمنوا في أعلى درجات الإيمان ، أقول في أعلى درجات الإيمان وأعني ما أقول لأن فرعون حينما علم أنهم قد آمنوا مع موسى هددهم بالقتل والصلب والتعذيب ، فما زادوا عن أن قالوا له:
( سورة طه )هنا تعليقٌ أقوله وأرجو أن يُفهَم كما أريد تماماً : أحياناً الإنسان يسلك سبيلاً طويلاً جداً حتى يصل إلى الإيمان ، سنوات تلو سنوات يفكِّر في آيات الله ويجاهد نفسه وهواه إلى أن يصل إلى إشراقة الإيمان ، وأحياناً تنقدح إشراقة الإيمان في قلب المؤمن في وقتٍ قصيرٍ جداً ، فما العلاقة بين هذا الأمد الطويل وبين هذا الأمد القصير ؟ فلماذا وصل فلان إلى إشراقة الإيمان بعد عشر سنين ، ولماذا فلان في ثانيةٍ واحدة انقدح في قلبه نور الإيمان ؟
الجواب أيها الإخوة جواب دقيق جداً ، في الإنسان عنصر اسمه عنصر الصدق ، ولا أعني بالصدق أن تقول كلاماً يطابق الواقع فهذا مفهومٌ آخر للصدق لا أعنيه إطلاقاً ، الصدق الذي أريده أن تكون صادقاً مع نفسك في طلب الحقيقة ، أن تكون الحقيقة غاليةً عليك جداً بحيث لا تنام الليل إلى أن تصل إليها ، ويستعمل بعض العلماء كلمة الصدق للتعبير عن مدى جدية الإنسان في طلب الحقيقة ، عن مدى إصراره في طلب الحقيقة ، عن مدى اندفاعه إليها ،
فإذا زاد الصدق أحرق المراحل ، نحن في النظام العام لا يمكن أن نعطي طالب الليسانس أو الإجازة إلا بعد أربع سنوات دراسة ، في بعض البلاد الراقية بالمقياس المادي يعرف العلمـاء المتخصصون أن هناك أُناسًا متفوقين ، لذلك تسمح لأحدهم أن يجتاز هذه الأعوام الأربعة بثلاثة أعوام ، لكن نحن ليس لدينا في النظام التعليمي إنسان في وقت قصير جداً ينال أعلى شهادة ، فهذا مستحيل ، لكن الله سبحانه وتعالى كما يقول بعض العلماء : طليق الإرادة والفعل ، فإذا عَلِم من إنسانٍ صدقاً عالياً جداً أعطاه في وقتٍ يسير ما لا يعطي الأقل صدقاً في وقتٍ طويل ، لذلك قال بعض العلماء : " المراتب العُليا لا لمن سبق ولكن لمن صدق " .
فقد تجد أحياناً شخصًا دخل إلى حلقة دينية يقول لك : مضى عليّ ثلاثون سنة ، وحالي : مكانك تحمدي أو تستريحي ، وإنسان آخر لم يمض على مجيئه إلى حلقةٍ من حلقات العلم أو حلقةٍ من حلقات التربية أكثر من أشهر ، فإذا هو يتألَّق تألّقاً يفوق هذا الذي مضى عليه عشر سنين أو عشرون سنة ، فالعبرة لمن صدق لا لمن سبق ، أي : أن
لله رجالاً إذا أرادوا أراد ، كلما ازداد صدقك رأيت ما لا يصدَّق ؛ رأيـت من توفيـق الله ومِن إكرام الله ، ومِن تأييد الله ، ومِن نصر الله ، ومِن هذه القوة التي تجذب المؤمنين ، وقد ورد في بعض الأحاديث :
" ما أقبل عبدٌ على ربه إلا جعل قلوب المؤمنين تنساق إليه بالمودة والرحمة " .الإنسان إذا أقبل على الله بإخلاصٍ جعل قلوب المؤمنين تنساق إليه بالمودة والرحمة .
نُعَيم رأى عمر يغلي كالمرجل ، كالبركان الثائر ، لا شيء يمنعه من أن ينطلق إلى قتل محمدٍ عليه الصلاة والسلام فقال له : " لبئس السعي سعيُك ، ولبئس الممشى ممشاك " ففي حياتنا المعاصرة مرض خطير ولكن اسمه لطيف "
المجاملة" ، المجاملة تعني مجتمع لا يتناصح أفراده أبداً ، مجتمع تسوده المصالح لا المبادئ ، مجتمع كل واحدٌ منه ينتمي إلى ذاته وإلى مكاسبه فلا يعنيه من أمر الناس شيئاً ، لذلك مما يقال عن الأذكياء غير الأتقياء أنهم يملكون قدرةً على التلوّن عجيبة ، إن جلسوا مع زيدٍ من الناس أشعروه أنهم أقرب الناس إليه ، وإن جلسوا مع عبيدٍ أشعروه أنهم أقرب الناس إليه ، وإن جلسوا مع أصحاب مبادئ معيّنة تمثَّلوا هذه المبادئ وأثنوا عليها حتى تظنُّ أنهم من أصحابها ، فهذا التلوُّن وهذه المجاملة أو هذا النفاق هو الذي يؤخِّر نشر الحق ، فقال له : " لبئس السعي سعيُك ، ولبئس الممشى ممشاك " .
سيدنا عمر ظن أن هذا الذي يعنِّفه قد أسلم أيضاً ، فقال له : "لعلَّك صبأت ؟! إن تكن فعلت فو اللات والعُزّى لأبدأن بك " ونُعيم يعرف تماماً أن ابن الخطَّاب يعني ما يقول ، فينهي الحوار بعبارةٍ تلوي زمام عمر إلى جهةٍ أخرى ، لأنه لم يحتمل وقعها الشديد ، قال : " ألا تعلم يا عمر أن أختك وزوجها قد أسلما وتركا دينك الذي أنت عليه ؟ " أخته فاطمة بنت الخطَّاب!! إذًا ماله ولدار الأرقم ، وقد اقتحم الخطرُ دارَه وعرينَه ، وهكذا أغذَّ السير إلى دار أخته ليسوي معها الحساب ، في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ ؟ قال :
" أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ . قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ : فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ . قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ . قَالَ : فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ. قَالَ : فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقُهُوا " * ( صحيح البخاري )تطبيق هذه القاعدة : فأنت الآن إذا وجدت شخصًا لا يصلّي ، لا يعتقد بالدين أبداً لكنه شهم ، صاحب مروءة ، صادق ، قلبه رحيم ، فتوقَّعْ له كلَّ خير ، وانتظرْ منه أن يكون من كبار المؤمنين ، لأن هذا الخُلُق لا يقود صاحبه إلا إلى الإيمان ، لذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً قد أسلم وكان في الجاهلية ذا أخلاقٍ عالية فقال عليه الصلاة والسلام :
" أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ " * ( صحيح مسلم عن عروة بن الزبير )إخواننا الكرام ... الناس في محيط ما بين أقربائهم ، وفي محيط أعمالهم ، وفي محيط علاقاتهم إذا رأيتَ الشخص الصادق الأميــن صاحـب المروءة الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، إن رأيت في إسلامه تقصيراً أو في إيمانه تقصيراً فاطمعْ بهذا ، واعتنِ به ، ودلَّه على الله ، لأنه إذا أسلم وآمن فكلُّ هذا الخير أصبح في خدمة المسلمين .
في جوف دار أخته كان سعيد بن زيد وزوجته فاطمة وخبَّاب بن الأرت ، وملء أيديهم صحيفةٌ فيها من وحي الله آياتٌ يتلونها ويتدارسونها ، هل في أيِّ بيت من بيوتنا لا تجد عدة نسخ من المصحف الشريف ؟ هل تمسك بهذا المصحف وتقرؤه ، فيقشعر جلدك ، وتنهمر عيونك ؟ المصحف هو هو ، بين أيديكم كلام الله ، لكن كلما ازددت قرباً من الله ، أولئك ينادَون من مكانٍ قريب ، أما العصاة المحجوبون عن الله عزَّ وجل فينادَون من مكانٍ بعيد ، لو أمسك المصحف وقرأ لا يشعر بشيء إطلاقاً ، فدونه حجب، فكل مخالفة حجاب ، كل معصية حجاب ، والله الذي لا إله إلا هو لا يذوق الإنسان حلاوة الإيمان ولا ثمار الإيمان ولا القرب من الواحد الديَّان إلا بطاعته التامة .
البارحة قلت : لو أن إنسانًا جاء بقطع للمركبة ، فأحضر عجلات وأغطية محرِّك ورفاريف فهل هذه القطع سيارة ؟ لا ، فهي لا تمشي ، لها ثمن لكنها ليست سيارة ، فإذا لم تأخذ الدين من كل جوانبه فلن ينهض بك ، العمل الصالح إذا لم يكن معه استقامة تامة لا يرقى صاحبه ، تأخذ أجرك كاملاً أضعاف مضاعفة ، لكنه لا يرقى بك ، فإذا علم الله أن شهوة من الشهوات هي أغلى عليك من رضوانه فالباب مغلق ، فالطريق إلى الله ليس سالكاً ، نحن بحاجة إلى استقامة وإلى عمل صالح وإلى نمو متوازن ؛ وإلى تفوُّق لا تطرُّف .
قرع الباب قرعاً رهيباً ، وقيل : من ؟ قال : عمر . أما خبّاب فسارع إلى مخبأٍ قصيٍّ في الدار ، وأما أخت عمر وزوجها فقد استقبلاه لدى الباب يغشاهما ذهول المفاجأة ، ولم تنس بنت الخطاب في هذه الغمرة الداهمة الصحيفة الكريمة التي بها آيات الله فخبَّأتها تحت ثيابها من شدة خوفها من عمر ، قال عمر : " ما هذه الهينمة التي سمعت عندكم؟ " ( سمعت صوت قراءة ) أجابا : لا شيء ، إنها نجوى وأحاديث ، قال لهما : سمعت أنكما صبأتما . قال سعيد : أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك ؟ (هذه أول قنبلة ) ، ولم يمهله عمر ، فوثب عليه في عنفوانه وأخذ برأسه يجرّه ويلويه ثم ألقاه أرضاً ، وجلس فوق صدره ، أي أن كل الضغط النفسي الذي في عمر صبَّه على زوج أخته ، وحينما تقدَّمت أخته لتدافع عنه أصابتها لطمةٌ أدمت وجهها ، عندئذٍ صاحت به وكأنها بوقٌ سماوي : يا عدو الله أتضربني على إيماني بالله الأحد ، ألا ما كنت فاعلاً فافعل فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ".
هنا حصل التبدُّل ، هنا حصلت في نفس عمر حادثة غريبة جداً هذا الاندفاع الشديد ضد هذا الدين الجديد توقَّف ، عندئذٍ قال لأخته : هاتِ الصحيفة التي كنتما تقرآن بها لأنظر ما فيها ، وتجيبه أخته : كلا إنه لا يمسُّه إلا المطهَّرون ، اذهب واغتسل وتطهَّر ، تغيَّر عمر ، قبل قليل كان إنسانًا مخيفًا موظَّفًا للباطل ضد الحق ، حينما صاحت بوجهه : افعل ما أنت فاعل ، إنني أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمَّد رسول الله ، فتبدَّل .
ويمضي عمر ليغتسل ، ويعود إلى أخته ، ويأخذ الصحيفة مِن يديها ، ويقرأ فإذا فيها
:بسم الله الرحمن الرحيمويتابع فإذا في هذه السورة :
( سورة طه )سيدنا عمر صار إنسانًا آخر ، عانق الصحيفة وقبَّلها ، ونهض واقفاً وقال : " لا ينبغي لمن هذه آياته أن يكون له شريكٌ يُعبد معه ، دلوني على محمد ".
بعضهم قال ، وأضعُ هذه المقولة بين أيديكم : " إما أن تطيعه فيكرمك ، وإما لحكمةٍ بالغةٍ ولعلمٍ يعلمه فيك يكرمك فتطيعه " ، وإما أن يسبق لك من الله عنايةٌ فيكرمك فتطيعه ، وأنا أمْيَل إلى التفسير الأول ، أنه إذا ارتفعت وتيرة الصدق في الإنسان حرقت المراحل .
والذي قد تخبأ ظهر ، سيدنا خبَّاب بن الأرت خرج من مخبئه ، وهرول صوب عمر صائحاً : " أبشر يا عمر ، فوالله لقد استجيب دعاء رسول الله لك " ، فهو قد سمع الدعاء :
((اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ )) .
(رواه الترمذي عن ابن عمر)بالمناسبـة عندما جاء عُمير بن وهب إلى المدينة ليقتل النبي عليه الصلاة والسلام ومعه سيفٌ مسموم ورآه عمر وعرف في وجهه الشر ، وقاده إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال : " يا رسول الله هذا عُمير جاء يريد شراً " .. والقصة تعرفونها .. حينما أسلم عُمير ماذا قال عمر ؟ قال: " والله دخل عُمير إلى النبي والخنزير أحبُّ إليَّ منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي".
وأنا أقول لكم الآن : إذا كان الشخص عدوًّا للدين فاجرًا منافقًا مستهزئًا ، لو رأيته تاب إلى الله ، واصطلح معه ، إن لم ينقلب بغضه محبّة فلست مؤمناً ، علامة إيمانك أنك لا تعادي الأشخاص بذواتهم ولكن تعادي اتجاهاتهم ، لا تعادي عين الشخص ولا ذاته ، وإنما عادِ أفكاره واتجاهاته وأعماله ، فإذا رجع عنها فهو أخوك حقاً ، فهذه علامة الإيمان ، لو أن إنسانًا تُكِنُّ له كل عداوةٍ لله ، كل بغضٍ لله ورأيته قد اصطلح مع الله إن لم تنقلب عداوتك حباً فلست والله مؤمناً ، إن لم ينقلب بغضك محبةً فلست والله مؤمناً .
أيها الإخوة ... هذا الصحابي الجليل أسلم بهذه الطريقة الفذَّة ، وجاء بيت الأرقم ودخل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأعلن الإسلام على يديه ، وتحققت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد أسلم أحبُّ العُمرين إلى الله عزَّ وجل ، وكان هذا الإسلام حدثاً كبيراً في الدعوة الإسلامية .
مرةً ثانية وثالثة : هناك رجلٌ كألْف ، وهناك ألْف كأُف ، فكن واحدًا كالألف ، وطريق البطولة مفتوحٌ لك ولغيرك .
وحينما التقى عمر بالنبي عليه الصلاة والسلام ، قال للنبي عليه الصلاة والسلام : " يا رسول الله ألسنا على الحقِّ في مماتنا ومحيانا ؟ " قال:
بلى يا عُمر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن مِتُم وإن حييتُم . فقال عمر : " ففيمَ الاختفاء إذاً ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجنَّ ولنخرجنَّ معك" ، أي أن أول بادرة من هذا الصحابي الجليل أنه تمنّى على النبي عليه الصلاة والسلام أن تنتهي هذه المرحلة مرحلة الاختفاء إلى مرحلة الخروج إلى البيوت وإلى المسجد الحرام .
بعد أن كُشف له الغِطاء ورأى الحقيقة الناصعة ودخل النور إلى قلبه قال هذا الصحابي الجليل : " والله لن أترك مكاناً جلست فيه بالكُفر إلا جلست فيه بالإيمان " .
لذلك يصحب التوبة ثلاثة أشياء : هناك العلم ، وهناك الحال ، وهناك العمل ، فالعلم يورث حالاً، وهذه الحال هي حالة الندم ، لكن عن العمل قالوا : هو أنواعٌ ثلاثة ؛ إصلاحٌ في الماضي ، وإقلاعٌ في الحاضر ، وعزيمةٌ في المستقبل ، " والله لن أترك مكاناً جلست فيه بالكُفر إلا جلست فيه بالإيمان".
هذا الصحابي له قصةٌ طويلة أرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا جميعاً إلى معرفتها واقتفاء معالمها لأنه كما قلت في أول الدرس :
"...فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ... " * وهذا الصحابي الجليل من الخلفاء الراشدين الهادين المهديين ، ومرةً بعد مرة أرجو الله سبحانه وتعالى أن تنقلب هذه الحقائق إلى ممارسات يومية وإلى سلوك ، لا أن تكون هذه الحقائق حقائق تاريخية نقرؤها لنملأ بها وقت الفراغ ، عندئذٍ لا تقدِّم ولا تؤخِّر .
وكما ذكرت لكم من قبل : أنا أعرضت قصداً عن كل فصلٍ نتعب في فهمه وقد نقع في سوء الظن، نحن نحبُّ من التاريخ ما كان حافزاً لنا ، ونعرض عما كان عبئاً علينا ، فنحن نأخذ هذه الصفحات فلعلها تدفعنا إلى أهدافنا في الإيمان دفعاً حثيثاً .
والحمد لله رب العالمين