فهو يردِّد هذا الحديث ، وقد خدعتهُ نفسُه الأمّارة بالسوء ، وهذا الاعتقاد يوقعه في الكبائر .
يوجد فهم سقيم جداً ، لقوله تعالى :
[سورة الفرقان]
فكلما كانت السيئة كبيرة بُدِّلت بحسنة كبيرة ، فهذا الفهم خطير جداً ، يدفع الإنسان إلى أن يرتكب أكبر الكبائر متوهِّمًا أنّ الله يبدلها له أكبرَ الحسنات ، ليس هذا هو المعنى إطلاقاً ، المعنى أن المؤمن إذا تعرف إلى الله ، وأشرق في قلبه نور الإيمان ، وتجلّى اللهُ على قلبه ، عندئذ الصفات السيئة التي كان متمثلاً بها تنقلب إلى صفات حسنة ، لقد كان بخيلاً فصار كريماً ، كان جبانًا فصار شجاعاً ، كان طائشاً فصار متزيناً ، كان ملحداً فصار منصفًا ، كان قاسيًا القلب فصار رقيق القلب .
هذا معنى الآية ، ليس معنى الآية أنه كلما ارتكبت سيئة كبيرة تنقلب إلى حسنة كبيرة ، هذا معنى خطير جداً ، وفهمٌ سقيم .
فنحن نرجو الله تعالى ألاّ يتسرب إلى عقولنا عقائد زائغة ، قد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة.
وبعد أن توفي النبيُّ عليه الصلاة والسلام يقول هذا الصحابي الجليل عن نفسه : كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله أتيت باب بيته في وقت قيلولته ، وتوّسدتُ ردائي عند عتبة داره ، فيسفو عليّ الريح من التراب ما يسفو ، و لو شئت أن أستأذن عليه لأذِن لي ، و إنما كنت أفعل ذلك لأطيِّب نفسَه ، فإذا خرج من بيته ، و رآني على هذه الحال قال : يا ابن عمِّ رسول الله ما جاء بك ؟ هلاَّ أرسلتَ إليَّ فآتيك ، فأقول : أنا أحَقُّ بالمجيء إليك ، فالعلم يؤتَى ولا يأتي .
كان يتلطف مع أصحب رسول الله الذين سمعوا منه بعض الأحاديث ، وكان يتلطف في التأدب معهم ، حتى يعطوه مما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فينام على عتبة داره ، والرياح تسفيه بالرمال ، فإذا خرج الصحابي رأى ابن عباس ؛ ابن عم رسول الله على عتبة البيت فيستحي منه ، ما الذي جاء بك ؟ قل لي أنا آتيك : لا ، العلم يؤتى ، ولا يأتي .
مرةً أحد خلفاء بني العباس حج البيت ، وقال أريد عالماً أستفيد من علمه ، فأتباعه توجهوا إلى الإمام مالك ، إمام دار الهجرة ، وقالوا له : تفضّل فالخليفة يدعوك إليه ، قال : قولوا له : يا هارون ؛ العلم يؤتى ولا يأتي .
فلما أبلغوه قال حق ، أنا آتيه ، فلما أبلغوه أنه سيأتيك ، قال : قولوا له لا أسمح لك بتخطي رقاب الناس ، قال : صدق .
فلما وصل إلى مجلس علمه جلس على كرسي ، فقال الإمام مالك : من تواضع لله رفعه ومن تكبر وضعه ، فقال : خذوا عني هذا الكرسي ، وجلس مع الناس .
العلم يؤتى ولا يأتي ، هذه كلمة ابن عباس ، ثم أسأله عن الحديث ، وذلك بعد أنْ أقام على باب بيته زمنًا حتى خرج .
وكان ابن عباس يذل نفسه في طلب العلم ، وهو ابن عم رسول الله ، ولكن مِن أجل أن يطلب العلم .. والحقيقة أنّ النبي الكريم يقول : تواضعوا لمن تعلمون منه ، وتواضعوا لمن تعلِّمونَه ، ولا تكونوا جبابرة العلماء *(الجامع الصغير عن أبي هريرة)
الطالب الأديب يأخذ كل علم أستاذه عن طيب خاطر ، لكن إن كان هناك سؤال فيه جفاء، وتعليق فيه قسوة ، وانتقاد لاذع ، وسوء أدب بالمعاملة ، فهذا ينفر الإنسان . ***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
***
دخل رجل على الطبيب فشهر عليه سلاحًا ، قال : له اذهب معي في ليلاً ، ذهب الطبيب معه في الليل ، و وصف له أدوية ، كلها غير موجودة في الصيدليات . ***
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يُكرَما
***
ورأى عالمٌ أحَدَ التلاميذ سيئ الأدب ، فقال له : يا بني نحن إلى أدبك أحوج منا إلى علمك .
حتى الصحابة الكرام دهشوا لأدب رسول الله ، حتى قالوا متسائلين : ما هذا الأدب ؟ قال : " أدبني ربي فأحسن تأديبي *(الجامع الصغير عن ابن مسعود)
ما رُئِيَ مادًّا رجليه قط ، اللهم صلِّ عليه ، كان رقيقًا جداً ، وكان يستحي كما تستحي العذراء في خدرها ، وما واجه أحداً من أصحابه بما يكره ، كان إذا أراد أن يوجه الناس يصعد المنبر ، والمقصود عنده واحد فيقول :
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ .....*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ......*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ ........*
مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا ............*
مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي ..........*(متفق عليها)
ما هذا الأدب ؟ !!
صحابي أخرج ريحًا كريهةً في حضرته ، بعد أن أكل أصحابه لحم جزور ، قال لأصحابه : " كل من أكل لحم جزور فليتوضأ " .
هذا هو الحياء ، هذا الذي انتقض وضوءه ، سوف يقوم ويتوضأ وحده ، ويتمنى أن تنشق الأرض وتبلعه ، فالنبي غطى الموضوع ، قال كل من أكل لحم جزور فليتوضأ ، قالوا: كلنا أكل لحم جزور .. قال كلكم فليتوضأ ، ستراً لحاله .
قال : لا تحمِّروا الوجوه ، هذا هو الأدب الذي علمنا إيّاه النبي عليه الصلاة والسلام .
وهذا زيد بن ثابت ، كاتب الوحي ، ورأس أهل المدينة في القضاء والفقه والقراءة والفرائض ، كما يروي ذلك عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يوما ، فأخذ ابن عباس بركابه ، فقال له : تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا ،فقال زيد : أرني يدك ، فأخرج يده ، فقبَّلها ، فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .(كنز العمال)
ابن عباس أمسك له ركاب دابته ، وزيد بن ثابت قبل يده ، الأول قال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، والثاني قال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا .
يا أيها الإخوة ؛ مجتمع المؤمنين مجتمع راقٍ جداً ، واللهِ ينبغي أن نعيش هذه الأخلاق ، احترموا بعضكم ، يؤلمني بعض المزاح بين الشباب ، احترموا مشاعرَ بعضكم ، اعرفوا قدر بعضكم ، تكاملوا فيما بينكم ، واجعلوا من مجتمعكم مجتمعاً يشبه مجتمع أصحاب رسول الله .
أحد الصحابة قال : كنت إذا رأيت ابن عباس قلت : أجمل الناس ، فإذا نطق قلت أفصح الناس ، فإذا تحدث قلت : أعلم الناس .
أجملهم وأفصحهم وأعلمهم .
بلغ هذا الصحابي الجليل من علو القدر على حداثة سنه أن سيدنا عمر بن الخطاب إذا واجهته معضلة دعا جُلَّ الصحابة ، ودعا معهم عبد الله بن عباس ، فإذا حضر رفع منزلته وأدنى مجلسه ، وقال له : لقد أعضل علينا أمراً أنت له ولأمثاله .
الصحابة الكرام تألموا ، طفل صغير يجلس بينهم ويُسأل ويُستفتى ويؤخذ رأيه من قبل أمير المؤمنين ، فمرة عاتبوا سيدنا عمر .
وعوتِب مرةً في تقديمه له ، وجعله مع الشيوخ ، وهو ما زال فتى ، فقال : إنه فتى الكهول ، له لسان سؤول ، وقلب عقول .
مرة عرض سيدنا عمر سورة النصر على أصحاب رسول الله فقال : ماذا فهمتم منها تكلموا؟
فسأل ابن عباس قال : هي نعيُ النبي ، لقد فَهِم منها فهماً عميقاً ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُدْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنَّ لَنَا أَبْنَاءً مِثْلَهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَعْلَمُ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ قَالَ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ *(رواه البخاري)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْذَنُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَأْذَنُ لِهَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَمِنْ أَبْنَائِنَا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ قَالَ فَأَذِنَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالُوا أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فُتِحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ وَيَتُوبَ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ قُلْتُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ فَقَالَ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَذَلِكَ عَلَامَةُ مَوْتِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فَقَالَ لَهُمْ كَيْفَ تَلُومُونِي عَلَى مَا تَرَوْنَ *(رواه البخاري)
[سورة النصر]
يعني انتهت مهمتك ، بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وانتهى كل شيء ، ونُعِيَتْ له نفسُه .
من مواعظ هذا الصحابي الجليل ، أنه كان يقول : يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبة ذنبك ، واعلم أن ما يتبع الذنب أعظمُ من الذنب نفسه ، إن عدم استحيائك ممن على يمينك وعلى شمالك ، وأنت تقترف الذنب لا يقلُّ عن الذنب ، وإن ضحكَك عند الذنب ، وأنت تدري ، أو أنت لا تدري ما الله صانع بك أعظمُ من الذنب ، وإن فرحَك بالذنب إذا ظفرت به أعظمُ من الذنب ، وإن حزنَك على الذنب إن فاتك أعظمُ من الذنب .
وإن خوفك من الريح إذا حركت سترك وأنت ترتكب الذنب مع كونك لا تضطرب من نظر الله لك أعظم من الذنب .
يا صاحب الذنب استغفر لذنبك .
ما كان بعد الذنب أعظم من الذنب نفسه .
خرج معاوية بن أبي سفيان خليفة المسلمين ذات سنة حاجًّا ، وخرج عبد الله بن عباس حاجًّا أيضاً ، ولم يكن له صولة ولا إمارة ، فكان لمعاوية موكبٌ من رجال دولته ، و كان لعبد الله بن عباس موكب يفوق موكب الخليفة من طلاب العلم ، فكيف هذا ؟ الجواب :
إنّ الأقوياء ملكوا القوالب ، ولكنّ الأنبياء ملكوا القلوب .
المؤمن يملك القلب بكماله ، والملك يملك القوالب بقوته .
هذا الصحابي الجيل عُمِّر إحدى وسبعين سنة ، ملأ فيها الدنيا علماً وفهماً وحكمةً وتقى ، فلما أتاه اليقينُ صلى عليه محمد بن الحنفية ، والبقية الباقية من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ، وجلَّة التابعين ، وفيما كانوا يوارونه التراب سمعوا قارئاً لم يروه يقرأ قوله تعالى:
(سورة الفجر)
أيها الإخوة الكرام ، هذا الصحابي الجليل نموذجٌ للصغار ، إن طفلاً صغيرً لا تزيد عمره عن ثلاث عشرة سنة يروي عن رسول الله ألفاً وستمائة وستين حديثًا صحيحًا ، هذا الصحابي الجليل كان مرجعًا لسيدنا عمر ، يسأله ، وهو عملاق الإسلام .
فالإنسان قيمته بما يعلم ، وقيمته بما يعمل ، وأيُّ مقياس آخر لا قيمة له ، وكما قيل : ابتغوا العزة عند الله ، ابتغوا الرفعة عند الله .. أيْ استعمل المقياس الذي يرفعك عند الله .
والحمد لله رب العالمين