قال القاضي عياض رحمه الله: ثم تقف متواضعا متوقرا، فتصلي عليه وتثني بما يحضرك وتسلم على أبي بكر وعمر وهذا مطلوب من الزائر وغير الزائر فتعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم أمر إلهي. قال أبو إبراهيم التجيبي: واجب على كل مؤمن متى ذكره، أو ذكر عنده –أن- يخضع ويخشع، ويتوقر ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به(1).
ومن التواضع المطلوب عنده عدم رفع الرأس والعينين بحضرته بل طأطأة الرأس والنظر بأدب كما لو أنك تنظر إليه ماثلا بين يديك فهو شهيد حي تعرض عليه حركاتك. روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما. ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما".(2)
وروى الإمام مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا أجلّ في عيني منه. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه".(3)
وروى أسامة بن شريك، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير.(4)
قال مالك رأيت أيوب السختياني حج حجتين فكنت أرمقه ولا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه. فلما رأيت منه ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
4- أن تأتيه متطيبا متجملا لابسا أحسن الثياب فإنه صلى الله عليه وسلم كان لـه لباس للوفود يكرمهم فأنت وفد الله ووفده يكرمك فأكرمه بأحسن لباس وأجمل هيئة، وقد كان مالك رحمه الله إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ وتهيأ، ولبس ثيابه، ثم يحدث. فسئل عن ذلك فقال: إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف بمن يزوره ويجالسه بالصلاة والسلام.
5- خفض الصوت عنده صلى الله عليه وسلم وخفضه عند رواية حديثه أو قراءته أو في مجالس حديثه.
ناظر أبو جعفر الإمام مالك رحمه الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدّب قوما فقال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) سورة الحجرات. ومدح قوما فقال: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم) الحجرات آية3، وذمّ قوما فقال: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) وإن حرمته كحرمته حيا، فاستكان أبو جعفر، وقال: (يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة) بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله).
وقد كان جعفر بن محمد الصادق كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر وما رئي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة.
وكان محمد بن سيرين يضحك فإذا ذكر عنده حديث النبي صلى الله عليه وسلم خشع.
وقد قال العلماء في قوله تعالى (ولا تجهروا له بالقول) أي لا تخاطبوه يا محمد ويا أحمد ولكن يا نبي الله ويا رسول الله، توقيرا له، وهذا كان دأب الصحابة رضي الله عنهم والسلف من بعدهم.
وكره العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام، وكرهوا رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم إذ هم ورثة الأنبياء.(5)
ومن تعظيم السلف له صلى الله عليه وسلم أن مالكا كان لا يركب بالمدينة دابة وكان يقول: أستحيي من الله أن أطأ تربة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحافر دابة.
وقال أحمد بن فضلويه الزاهد ما مسست القوس بيدي إلا على طهارة منذ بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القوس بيده.
وكان مالك رحمه الله قد ترك حضور الجنازات في آخر حياته وكان يأتي أصحابها فيعزيهم ثم ترك ذلك كله ولم يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، فعوتب في ذلك فقال: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره وعلم بعد ذلك أنه كان قد أصيب بسلس البول وكان يخشى أن ينجس مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال وهو يودع الدنيا لولا أني في آخر يوم من الدنيا وأوله من الآخرة ما أخبرتكم بسلس بولي، فكرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير طهارة استخفافا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أذكر علّتي فأشكو ربي!.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه.(6)
6- الوقوف عنده بتوبة نصوح نادما مستشفعا مستغفرا فكيف بك تريد التعظيم لجنابه وأنت تهمل أمره وتنتهك حرمته وحرمة ربه عز وجل قال السلمي في قوله تعالى: (واتقوا الله إن الله سميع عليم) أي اتقوا الله في إهمال حقه وتضييع حرمته. واقرأ عنده ممّا أنزل عليه، وأنت نادم تائب، قوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) النساء.
7- تعظيم آثاره وتعظيم أصحابه وتوقيرهم فقد كانت لأبي محذورة قصة في مقدم رأسه إذا قصد وأرسلها أصابت الأرض، فقيل لـه: ألا تحلقها؟ فقال لم أكن بالذي أحلقها وقد مسها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
قال القاضي عياض ومن إعظامه وإكباره: إعظام جميع أسبابه، وإكرام مشاهده وأمكنته من مكة والمدينة ومعاهده وما لمسه صلى الله عليه وسلم أو عرف به.(7)
والأخبار في ذلك كثيرة ومتواترة لمن أراد الاستزادة فليرجع إلى شمائله وإلى سير الصحابة والتابعين والسلف في تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن أنى لك بذلك التعلق بالقلب الأسمى والجناب الأحمى ونفسك في الحضيض، عديم الإرادة ساقط الهمة! عليك بمحبة العوام واسأل ربك أن يقيض لك روحانية عارف تطير بك همّتها بأجنحة المحبة إلى رحاب الوحي والنبوة.
(1) الشفا ج 2 ص 35 مؤسسة الكتب الثقافية.
(2) الترمذي 3668 – تحفة الإشراف 286.
(3) صحيح مسلم (121/142) تحفة الإشراف (10737).
(4) أبو داود (3855) الترمذي (2038) تحفة الإشراف (127).
(5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 16 ص 278.
(6) أحكام القرآن (ج 4 ص 146) الآية 2 المسألة 2.
(7) الشفا ج 2 ص 47.
منقول من مشاركه للاخ climantin
المصدر: الدكتورعمر أداوي.الرحلة إلى الحج بين القلب والجسد الجزء الرابع.