أنـت الآن أصبحت داعية ، قالوا : "قدم وكيع علينا ، فجعل يقول : حدثني الثبت ، فظننا أنه اسم رجل ، فقلنا : من هذا الثبت أصلحك الله ، قال : مالك بن أنس" ، الثبت : أي الدقيق في حفظه ، الدقيق في روايته ، عدل في أخلاقه ، ثبت في حفظه .
قال ابن المهدي : "ما رأيت أحداً أعقل من مالك " ، وهناك بعض الأقوال عن الإمام مالك هي في الحقيقية منامات ، وأنا ليس من عادتي أن أجعل من عماد الدرس الكرامات ، ولا المنامات ، مع أني أعتقد بها ، الكرامة أعتقد بها ، وأصدقها ، ولا أرويها إلا إن كان فيها نص صحيح ، ولكن مثلاً : قال : كنت عند مالك بن أنس فأتاه ابن أبي كثير قارئ أهل المدينة ، فناوله رقعةً ، فنظر فيها مالك ، ثم جعلها تحت مصلاه ، فلما قام من عنده ذهبتُ ، فقال : اجلسْ يا خلف ، وناولني الرقعة ، فإذا فيها : رأيت الليلة في منامي كأنه يقال لي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فأتيت المسجد فإذا ناحية القبر قد انفرجت ، وإذا رسول الله جالس ، والناس حوله يقولون له يا رسول الله مُرْ لنا ، فيقول له : إني قد كنزت تحت المنبر كنزاً ، وقد أمرت مالكاً أن يقسمه فيكم ، فاذهبوا إلى مالك ، فانصرف الناس ، وبعضهم يقول إلى بعض : ما ترون مالكاً فاعلاً ؟ قال بعضهم : ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع مالك بكى .
الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له ، بشارة من الله ، فإذا صلح حالُ الإنسان مع الله كثيراً ، وأخ كريم رأى له رؤيا ، وهي بشارة من رسول الله ، أو من صحابي جليل ، أو من عالم جليل ، أو رآه في حالة جيدة ، ونقلها له ، فهذه بشارة ، فكأن هذا المنام بشارة لسيدنا مالك أن له مقام رفيع عند رسول الله ، ونسأل الله أنْ يجعلنا من هؤلاء الذين يستحقون أن يُبَشَّروا ، ولكن واللهِ لو أن إنسانًا أكرمه الله بأن يرى رسول الله في المنام ، فلعله يبقى أشهرًا تلو الأشهر ، وهو منغمس في سعادة لا توصف ، لأن سيد الخلق قمة البشر في حبه وفي أحواله وفي إقباله ، وفي سعادته .
قال ابن المهدي : "ما رأيت أحداً أعقل من مالك" .
قال أحد العلماء : سمعت مالكاً سُئِل عن ثمانية وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، الإمام مالك إمام دار الهجرة ، العالم الفذ ، الراوي ، المحدث ، المجتهد ، قال أحد العلماء سمعت مالكاً سئل عن ثمانية وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، فوطِّنوا أنفسكم أن نصف العلم لا أدري ، ومن قال : لا أدري فقد أفتى ، فلا تخجل ، قل : لا أدري ، وأنت عالم ، أما إذا تكلمت بكلام على عواهنه فهذا هو الجهل بعينه ، والعياذ بالله ، فإما أن تفتي بعلم ، وإما أن تفتي بجهل ، وأما الثالثة فإجرام ، بأن تفتي بخلاف ما تعلم ، تعلم حكمًا شرعيًّا ، ولكن لمصلحة دنيوية تفتي بخلاف ما تعلم .
إنْ أفتيتَ بعلم نجوت ، وإنْ أفتيتَ بجهل سقطت ، وإنْ أفتيتَ بخلاف ما تعلم فقد أجرمت .
بكل بساطة في بعض الأقطار الإسلامية أفتى عالم من علماء ذاك البلد ، ويحتل منصبًا رسمي في الإفتاء ، أفتى بجواز القرض الربوي ، وفي اليوم التالي وضع الناسُ في البنوك أربعة وثمانين مليارًا من عملة ذلك البلد ، ألم يقل الإمام أبو حنيفة لطفل : يا غلام إياك أن تسقط ، قال: بل أنت يا إمام إياك أن تسقط ، إني إن سقطتُ سقطتُ وحدي ، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالَمُ.
وفي قول آخر : "قدمت على مالك بأربعين مسألة ، فسألته عنها ، فما أجابني منها إلا بخمس مسائل".
قال النسائي : "أمناء الله على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ؛ شعبة ، ومالك ، ويحيى القطان " ، مالك أحد أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمه ، وكان الأوزاعي ، وهو عالم جليل إذا ذكر مالكاً قال : "عَلَم العلماء ، ومفتي الحرمين" .
يروى أن الإمام مالكًا رأى في النوم ملك الموت ، وهذا موضوع الاختصاص ، فقال : يا ملك الموت ، كم بقي لي من عمري ؟ ففعل هكذا ، وأشار بأصابعه الخمسة ، فلما استيقظ ازداد قلقاً ، يا ترى خمس سنوات ، أم خمسة شهور ، أم خمسة أسابيع ، أم خمسة أيام ، أم خمس ساعات ، فذهب الإمام مالك إلى إنسان مختص في تفسير الأحلام ، هو ابن سيرين ، وقال له : فسر لي هذه الرؤيا ، قال : يا إمام ، يقول لك ملك الموت : إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله ، وهذا من الاختصاص في الدين ، فزال اضطرابه .
قال بعض العلماء : "مالكٌ من حجج الله على خلقه" ، قال الله عزوجل :
[ سورة الأنعام ]
ليس في الإسلام مؤمن صادق إلاّ ومعه حجة قوية ، وإلا أصبح الدينُ لا معنى له ، صالح فقط، آدمي يخاف من الله ، وإذا ناقشته يرتدع ، أليس هذا هو الإيمان ؟ هذا عابد ، وليس عالمًا، ولكنَّ عالمًا واحدًا أشد على الشيطان من ألف عابد .
قال ابن الفرات : "إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك " ، هذا الكلام شرعي ؟ هناك دليل قرآني على شرعيته ، إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك ، قال تعالى :
[ سورة الكهف ]
إذا أردت الله والدار الآخرة فابحث عن رجل تثق بعلمه وإخلاصه ، وورعه ، واستقامته ، فالزمه ، وخذ عنه ، واسأله ، واجعله قدوةً لك ، "إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك" .
وقال أبو عاصم : "ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك" ، الله عز وجل لحكمةً أرادها جعل وجه المخلص متألقًا ، وجعل وجه العاصي ترهقه غبرة ، أولئك هم الكفرة الفجرة .
إذا كان الإنسان مرتكبًا معصية فآثار معصيته تبدو على وجهه ، يروى أنه دخل رجل على سيدنا عثمان فقال : "أيدخل علينا رجل وأثر الزنا في عينيه ؟ فقالوا : أوحي بعد رسول الله ؟! قال : لا، ولكنها فراسة صادقة" ، ترى العاصي على وجهه قتامة ، وجهه جامد ، وفيه فتور ، والطائع وجهه متألق ، وجرِّب ، واقرأ القرآن الكريم بإخلاص ، صلِّ الصلاة بإتقان ، تهجد ، ابتهل وانظر في المرآة ترى جمالاً وتألقاً لم تعهده من قبل ، وقالوا الوجه صفحة النفس .
وقال أبو عاصم : "ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك" ، النبي صلى الله عليه وسلم كان وجهه كالقمر ليلة البدر ، وقال : "ما رأيت بياضاً ولا حمرةً أحسن من وجه مالك ، ولا أشد بياضًا ببياض ثوب منه" ، وجه متألق ، وثوب نظيف ، من الذي قال لك : إنّ الإنسان كلما كان مهمِلاً لمظهره فهو وليٌّ لله ، هذه مقولة شيطانية ، كان عليه الصلاة والسلام يُعرَف بريح المسك ، كان يقول : " ... فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ "
[ أبو داود ـ أحمد ]
أنت تمثل الدين ، هل يستطيع ضابط أن يركب دراجة ، إخواننا الذين خدموا الخدمة الإلزامية، في النظام العسكري يعرفون أنّ ضابطًا برتبة ملازمٍ فما فوق لا يُسَمح له أن يركب دراجة ونحوها ، ممكن للمسلم أن يكون له زيٌّ إسلامي ، مظنة صلاح ، أنا مرة أحد أقربائي توفي ، فذهبت إلى متابعة المعاملة ، لحق بسيارتي السيارة خمسة وعشرون شخصًا ، كلهم قراء القرآن الكريم ، يتزاحمون ليقرؤوا في المساء ـ أيْ يقرؤون القرآن في بيت الميت ـ فهل هذا يليق بهؤلاء ؟ الذي يحفظ كتاب الله لا ينبغي أن يكون هكذا ، ترى شخصًا بأي سلك محترمًا ، إذا كان موظفًا مثلاً في شركة محترمة فيُمنَع أن يلبس قميصًا مزركشًا ، وإذا كان للمرءِ علاقات رسمية يجب أن تكون ثيابه كاملة ، هذه قواعد ، فماذا بمن يعمل في الحقل الديني ؟ لديه إهمال ، أيضا ًالمظهر اللائق في الحياة الاجتماعية له اعتبار ، فلا يحسن بإنسان عداي أنْ يهمل مظهره ، فكيف بذوي المراتب الدينية ، "ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك ، ما رأيت قط بياضاً ولا حمرةً أحسن من وجه مالك ، ولا أشد بياض ثوب من ثوبه" .
سئل مالك عن الزهد فقال : "طيب الكسب ، وقصر الأمل" ، هذا هو الزهد عند مالك ، الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال : "سألت مالكاً عما يترخص به أهل المدينة من الغناء ، فقال الإمام مالك: إنما يفعله عندنا الفساق" ، هذا رأي الإمام مالك في الغناء ، و قال الإمام مالك : "إن الرجل إذا أخذ يمدح نفسه ذهب بهاؤه" ، و جاء رجل إلى الإمام مالك فقال : "يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ قال : فما رأيت مالكاً وجد في شيء كوجده من مقالتي ـ انزعج ـأطرق بعض الوقت ، و جعلوا ينتظرون ما يأمر به فيه ، قالوا : ثم سري عنه فقال : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، و الإيمان به واجب ، و السؤال عنه بدعة ، و إني أخاف أن تكون ضالاً" ، وهذا رأي أهل السنة والجماعة في عدة آيات قليلةٍ جداً تتعلق بذات الله ، إما أن نوكل تأويلها إلى الله ، وإما أن نؤولها وفق كمال الله ، أما أن نعطلها ، أو نجسدها فقد وقعنا إذًا في الضلالة .
وقال القاضي عياض : "يا أبا عبد الله ، يخاطب الإمام مالك : وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ، أينظرون إلى الله ؟ قال : نعم ، قالوا : بأعينهم هاتين ؟ قلت : فإن قومًا يقولون إن ناظرةً بمعنى أن منتظرةٌ الثواب ، قال : بل تنظر إلى الله ، أما سمعت قول موسى :
[ سورة الأعراف ]
أتراه سأل محالاً ، لكن الله تعالى قال : لن تراني ، أي في الدنيا ، لأنها دار فناء ، فإذا ساروا إلى دار البقاء نظروا بما يبقى إلى ما يبقى ، وقال تعالى :
[ سورة المطففين ]
[ سورة القيامة ]
فينظرون إلى وجهه الكريم ، قال : سمعت مالكاً يقول : "دخلت على أبي جعفر ، أبي جعفر المنصور ، فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبل يده ، يقول الإمام مالك : ورزقني الله - الحمد لله - العافيةَ من ذلك ، فلم أقبل له يداً " .
وكان مالك لا يبلِّغ من الحديث إلا صحيحه ، ولا يحدث إلا عن الثقات ، وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته ـ يعني من العلم ـ .
وقال محمد بن سعد : "اشتكى مالك أيامًا يسيرة ، فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت ، فقالوا : تشهَّد ، ثم قال : لله الأمر من قبل ومن بعد" ، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد ، وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وهو يومئذٍ والٍ على المدينة ، ودفن بالبقيع ، وكان ابن خمس وثمانين سنة .
قال بعضهم : "كان مالك ثقةً ، مأموناً ، متبتلاً ، ورعاً ، فقيهاً ، عالماً ، حجةً" .
قال أسد بن موسى : رأيت مالك بن أنس بعد موته وعليه ثياب خضر وهو على ناقة تطير بين السماء والأرض فقلت : يا أبا عبد الله أليس قدَّمت ؟! قال : بلا ، قلت : إلامَ صرت ؟ قال : قدمت على ربي ، وكلمني كفاحاً ـ وقال : سلني أعطكَ ، وتمنَّ عليَّ أُرضِك.
إخواننا الكرام ، كل شيء يمضي ، لا يبقى إلا العمل الصالح ، فهنيئاً لمَن عرف الله ، ولمن أطاعه ، ولمن أفنى عمره في طاعته ، ولمن قدم الغالي والرخيص والنفس والنفيس في سبيل الله، واللهُ عز وجل يكافئ على الحسنة أضعافاً مضاعفة .
والحمد لله رب العالمين